recent
أخبار ساخنة

فُتنَة ” رواية لـ”أميرة بهي الدين” الجزء الثاني

أميرة بهي الدين





أميرة بهي الدين


الجزء الثاني

نبيل

ساعاتٌ طويلة مرت، ونبيل نائم غافٍ يصارع أشباح كوابيسه، فلا ينتصر عليها ولا تصرعه، تنهِك بدنَه وروحه ونفسه، تسحب طاقته وحيويته وسكينته، وتتركه كومة أنقاضٍ متهدمة فوق بعضها، مثيرة للأسى والشفقة. 

ساعاتٌ طويلة مرت عليه مسجى الجسد على فراشه، حتى تظنه مات وتيبّس، لكن الأنفاس المتلاحقة الواهنة التي تخرج من صدره تؤكد له ولفُتنَة أنه ما يزال حيًا، وما يزال مهزومًا! 

تتأمله وسط نومِه، وهي جالسة فوق المكتب تهز ساقيها، تهمس في عقله وسط هلاوس النوم بحكمةٍ تندهش هي شخصيًا منها، الكوابيس ستتركك وقتما تكتب ما يستحق القراءة. ينتفض في فراشه وكأن كلماتها سنون مشحوذة توخِزه، لا تكف عن الحديث معه، ولا عن الزن على أذُنِه بأحاديثها، ينتفض مِن فوق فراشه وكأن نارًا تكوي جسده بألسنة لهبها المتوحشة، فتوقظه فزِعًا مرعوبًا، على وجهه علامات غريبة وملامح أغرب، يبحث عن مفتاح النور بخوفٍ مرتبك وأيدٍ مرتعشة، فارًا من ظلامٍ موحش يخيفه بما يراه فيه من خيالات وأشباح تلاحقه وتطارده، يشعل النور في الحجرة فيخرج مِن المصباح القديم شاحبًا أصفر لا ينير ولا يطمئن، يسعل نبيل مراتٍ متتالية وكأنه يُخرِج من رئتيه وصدره اختناقًا قاتلا يحرمه الهواءَ والنفَس والحياة، ينظر بحدقتيه المفزوعتين حوله برعب وكأنه غريب في غرفةٍ موحشة لا يعرفها، يفتح حدقتيه أكثر يتأمل المكانَ وتفاصيله، نعم هي غرفته التي يعيش فيها، هي غرفته على حالها وقت أن غفا، صامتةٌ ساكنة مظلمة خانقة كما اعتاد عليها منذ وقتٍ بعيد، تهدأ أنفاسه اللاهثة قليلا، ويطمئن نفسه أن الفزع الذي يعيشه الآن هو ذاته الفزع اليومي المزمِن الذي يحتل نومَه وفضاء غرفته منذ زمنٍ بعيد، عاجزًا عن الفرار منه أو الخلاص من قسوته، وكأنه أدمنه وأدمن قسوته! 

يشرب نبيل، وبسرعة كوبَ الماء الملاصق لفراشه، بعد أن جف حلقه من كثرة الصراخ الذي مزق أحباله الصوتية طوال ساعات الكابوس الطويلة، صراخ أخرس ينهكه دائمًا في كابوسه اليومي، لا صوت فِعلي يخرج من حلقه، ولا أحد يسمع استغاثاتِه ويوقظه وينتشله مما يعاني كل ليلة، يشعل سيجارة وهو ما يزال على فراشه مستعيدًا تفاصيل ومشاهد الكابوس المقبِض الذي يلاحقه ولا يرحمه، ولا يترك له نومًا هادئًا ولا نعاسًا مطمئنًا، كابوس يومي يأتيه كل ليلة وقت أن يغفو، بل يزوره أحيانًا أكثر من مرة، ويتكرر بنفس قسوته ومشاهده وأحداثه في ذات الليلة .. 

كل ليلةٍ في نفس الكابوس، يرى نبيل نفسه واقفًا في ميدانٍ عام كبير، الوقت قبْل الليل بقليل، والسماء مظلمة، وكأن سُحبًا رعدية تحتل كل براحها، إنه المشهد الموجع الذي عاشه ألف ألف مرة، يلمح وسط الميدان جبلا عاليًا من الكتب التي كتبها وألّفها، يرى تحتها رمادًا أسود كثيفًا من آثار حريقٍ كبير عاش قسوتَه في ليالٍ سابقة، يرى رجالا ملثمّين بأغطية سوداء على رؤوسهم تخفي ملامحهم، إلا عيونًا غاضبة، وابتساماتٍ ساخرة، يتحلقون حول كتبه، وبأيديهم كتلٌ من نار يجهزونها لحرق الكتب المتراكمة فوق بعضها وسط الميدان، يرى أناسًا كثرًا يتحلقون حول الملثمّين لا يكترثون بكل ما يحدث أمامهم، ولا يعنيهم نار جهنم التي تعدّ لكتبه ورواياته، يصرخ نبيل عليهم، يناشدهم أن ينقذوا كتبه، لكنهم لا يسمعون صراخه، ولا يسمعون إلا سباب الرجال الملثمّين له ولأفكاره، فيبتسمون بلامبالاة وكأنهم يوافقونهم. 

يرى نبيل نفسه واقفًا في طرف الميدان مقيدًا مكانه بما لا يراه، تلتصق قدماه بالأسفلت المنصهر، والعرَق يكسوه أنهارًا مالحة تحرق جِلده وعينيه، وصوت الملثمّين عالٍ يحاصره ويحطم رأسه، فاشل .. فاشل! يراهم يصرخون في وجهه، فاشل .. فاشل! تتسارع دقات قلبِه رعبًا، وتتلاحق أنفاسه، فاشل ..فاشل! يرى أحد الملثمّين يَخرج من وسط جمعهم ويجري صوبَه غاضبًا، وذراعاه أمامه، وقبضتاه مكورتان في وجهه، كأنه سيلكمه بهما ويحطم رأسه، فاشل .. فاشل! صدى الصوت يرتد في الميدان الكبير، يهز بقوته عماراته وأبنيتَه، فاشل .. فاشل! يدرِك بأسى وحزن العاجزين اليائسين أن أصابعهم جميعًا تشير إليه، وصوت غضبهم يقصده، وحناجرهم تسلخ جِلده وكبرياءه، يرى كتبه ورواياتِه تتراصّ أمام عينيه جبلا عاليًا، يصرخ يستجدي اللامبالين أن ينقذوه من أيدي الملثمّين ومن ألسنة اللهب، لكن صوته لا يخرج من حنجرته، يستجديهم، هذه كتبي أحِبها، وهذه رواياتي التي قضيت في كتاباتها لياليَ طويلة لتحِبوها، يستجديهم أن ينقذوا كتبه وأن ينقذوه، لكنّ ساكنًا لم يتحرك، وكأن كل ما يحدث في الميدان لا يحدث فِعلاً، وكأنه وحدَه فقط يرى المأساة ويعيشها، ولا أحد غيره يدركها، ولا تهز في رأسِه شَعرة! 

صراخ الملثمّين يدوي في رأسه زلزاله مدويًا يميد الأرض تحت قدميه، فاشل .. فاشل! أصابعهم التي تشير إليه تتحول رماحًا تغزو عينه وقلبه، يرى أحدهم يتقدم صوب جبل الكتب ويفتح عليه صهاريج الوقود التي انشقت الأرض عنها، يراهم جميعًا يتقافزون حول الكتب، يلقون عليها كتل اللهب الحارقة، فينفجر الحريق فيها مدمرًا مخيفًا. 

ينتفض نبيل مكانه، يصرخ بلا صوت، ويبكي بلا دموع، مشلولٌ مكانه، عاجز يلاحقه سؤال لا يعرف إجابته، لماذا لا يحاول أن ينتشل كتبه؟ لماذا لا يجري صوبها لينقذها من المحرقة؟ لماذا رغم غضبِه وفزعه هو ساكنٌ مكانَه، ثابتٌ لا يحاول مجرد محاولة لإنقاذ بنات أفكاره وناتج إبداعه وعقله؟! الملثمّون يصرخون حوله، فاشل .. فاشل! عيونهم تتوهج أمام ألسنة النار الحارقة فرحًا وانتصارًا، مَن أنتم؟! يصرخ نبيل بصوتٍ ينسكب بداخله سياطًا حارقة، ولا يسمعه غيره، مَن أنتم؟! يسأل نفسه عن الملثمّين، مَن هم؟ ولماذا يحرقون كتبه بضميرٍ مستريح ونفوسٍ راضية، وكأنهم يقتلونه ألف مرةٍ مع كل صفحةٍ تلتهمها النيران؟! يحاول نبيل أن يتعرف عليهم، يحدّق في وجوههم المتوارية خلف الأقنعة السوداء، يحدّق في عيونهم الظاهرة الفرِحة، وفي انعكاسات ألسنة اللهب عليها، ينتفض فجأة، يعرف هذه النظرة، يعرف هاتين العينين، هي لناقدٍ لا يحِب كتاباتِه، ويهاجمه دائمًا كلما أُتيحت له الفرصة، "رؤوف"، يصرخ باسمِه ويناديه، يتمنى أن يسأله، هل تكرهني إلى هذا الحد؟ هل استفحل بيننا الخلاف حتى تحرق كتبي التي تكرهها، ورواياتي التي تبغضها؟ هل عجزتْ كلمات نقدك وانتقادك، ويئست مِني، فلم يبقَ أمامك إلا حرقي أنا وكتبي؟ يصرخ نبيل وينادي "رؤوف"، يبحث عن إجاباتٍ لأسئلته الخرساء، لكن لا رؤوف ولا بقية الملثمّين يسمعون صوته، بل لا يرونه أساسًا، وكأنه والعدم سواء! 

يرتج جسد نبيل فوق فراشه، وينهمر العرق على وجهه، وتتسارع دقات قلبِه، وتتلاحق أنفاسه، وكأنه يقف فعلاً في الميدان الكبير يرى النيران المشتعلة في كتبه ورواياته، يستعيد كل لحظات الكابوس الذي يعيشه كل ليلةٍ منذ زمنٍ بعيد، يرتج جسده فزعًا وهو يرى شخصياتِ رواياته وأبطالها يفرون من الكتب المشتعلة، ويجرون بعيدًا عن صفحاتها وعنه، يصرخ فيهم، يناديهم أن يدافعوا عن وجودهم، يرجوهم أن ينقذوا الكتب وأن ينقذوا أنفسهم، يناشدهم أن ينقذوا حياتهم وعوالمهم التي أرهقته كتابتها والكتابة عنها، يرى نبيل مِن فوق فراشه كل شخصيات وأبطال رواياته وكتبه تسخر منه ومن صراخه واستجدائه، وهو عاجزٌ قليل الحيلة على طرف الميدان الذي يشتعل في وسطه جبل الكتب العالي، يظن، لا بل هو مدرِكٌ فعلاً أن شخصياته وأبطاله يكرهونه ويحتقرونه، وكأن الحريق المشتعل في الكتب هو الفرصة التي واتتهم ليفِروا منه ومن رواياته، كم مِن كابوس آخر طاردته فيه شخصيات وأبطال رواياته، وهُم يتشاجرون معه غاضبين منه ومن كسلِه في كتابة ملامحهم، ورداءة وسطحية ما كتبه عنهم، وما وَصفهم به! وكم من شخصية لاحَقَته وتربّصت به وسط الكوابيس، تتشاجر معه وتسبّه علي ما فعله فيها، وقت أن كتبها ورسمها برداءة وسخافة، كرّهت فيهم القراء، ونفرتهم من ملامحهم وحكاياتهم! 

يتابع نبيل شخصيات وأبطال كتبه وهي تفِر من الحريق ومن الكتب، وتَخرج من صفحاتها وأحداثها، وتتبرأ منها وتبريء نفسها من سطحيتها وسخافتها وافتعال أحداثها، يتابعهم وهُم يفِرون أمام عينيه ينجون بأنفسهم، وينقذون ذواتهم من جريمةٍ لم يرتكبوها، ومن عقابٍ لا يستحقونه، ويتركونه والكتبَ للحريق المدمر، يصرخ نبيل يطلب العون والغوث لإنقاذ رواياته وكتبه، بعدما فر أبطالها وبقية شخصياتها، لكن الكتب والروايات تسخر منه ومن صراخه، ماذا بقي لدينا أيها المؤلف بعدما فرت مِنا الشخصيات والأبطال وحكاياتهم؟ ماذا بقي لدينا لنحافظ عليه؟ فقط مجرد صفحات بيضاءَ شاحبة مثل وجهك الفزع لا تستحق إنقاذًا ولا شفقة، صفحات بيضاء قديمة لا قيمة لها، ولن يكترث بحرقها كائنٌ مَن كان، ماذا بقي لدينا أيها المؤلف يستحق الإنقاذ والغوث؟ وقبل أن يستوعب نبيل المعنى المرعب الذي يعيش لحظتَه وقت أن تحولت رواياته بعد فرار أبطالها وشخصياتها لصفحات بيضاءَ فارغةٍ قديمة، لا تستحق إنقاذًا ولا اهتمامًا، قبل أن يستوعب ما يحدث أمام عينيه، إذا بالأوراق البيضاء والصفحات الفارغة تهرب من الكتب والأغلفة، وتحلّق بعيدًا عن ألسنة اللهب، تنقذ نفسها من حريقٍ لا يقصدها، ومن عقابٍ لا تستحقه، تمزق الأربطة التي تقيّدها بالأغلفة، وتقذف بالدبابيس التي تربطها باسم المؤلف بعيدًا، وتحلّق في السماء تودّعه، وتشرح له أن الملثمّين يبغون حرق أفكاره وشخصياته وأبطاله الذين فروا من الكتب ونجوا بأنفسهم، فأولى بالصفحات والأوراق البيضاء الفارغة، البريئة من ذنب الضحالة والافتعال والسطحية، أن تنقذ نفسها، وتحمي نفسها من عقابٍ باطشٍ لا تستحقه، ماذا بقي من الكتب والروايات يا سعادة المؤلف يستحق النجاة؟ سؤالٌ يسمعه نبيل يدوي في رأسه، يسمعه في كوابيس نومِه، وكوابيس يقظته، لم يبقَ منها إلا الأغلفة الرديئة، واسمك الذي التهمته النيران وبسرعةٍ بلا شفقةٍ .. بلا حزن!

ما يزال نبيل واقفًا مكانه علي طرف الميدان، أمام عينيه تحترق الكتب والروايات، هذا ما يراه في كابوس كل ليلةٍ، وهذا ما يراه الآن وهو جالسٌ على فراشه يستعيد تفاصيل الكابوس الذي أفسد نومه وقتله، وما يزال يقتله كل ليلةٍ إرهاقًا وغضبًا، ما يزال واقفًا مكانه، يستجدي شخصياتِه وأبطاله لتعود للكتب وتدافع عن وجودها، لكنهم يسخرون منه، ويفِرون بعيدًا عنه؛ معلِنين تمردًا وعصيانًا طالما تمنوه منذ سَطر قلمُه حرفه الأول عنهم، يستجدي المثلمّين أن يرحموا كتبه واسمه وأفكاره، لكن الملثمّين لا يستجيبون لرجائه، ينظر لاسمِه فوق الأغلفة الرديئة، تحترق حروفه وتتلاشى، فيتألم وكأن ألسنة اللهب تلتهم عظامه ولحمَه، ما يزال واقفًا في الميدان تحاصره أصوات الغاضبين، وصدى صراخهم الهيستيري، احرقوا الفاشل.. احرقوا الفاشل.. احرقوا الفاشل! ويملأ دخان الحريق غرفتَه، ويخنق أنفاسه، وينشر بسواده ظلامًا موحشًا، ويفيق نبيل من سُباته، وينتفض على فراشه وجِلاً يلاحقه سؤالٌ واحد لم يعرف له إجابة.. وماذا بعد؟! 


فُتنَة


"أنا حاقولك يا استاذ كنت باعمل ايه وقت ما نويت تقتلني"، وبدلالٍ حانٍ همست، "كنت اهون عليك برضه يا استاذ؟". 

ولم تترك له مجالا للرد عليها، وبدأت في تنفيذ قرارها باحتلال رأسه، تلاحقه بوجودها وحكاياتها وثرثرتها في النوم واليقظة، تفرض عليه نفسها مثلما نوَت وقررت، أزاحت كابوسه اليومي بعيدًا عن وجدانه، ولو مؤقتًا، وخلَقت لنفسها مكانًا في رأسه لتحتله وتحكي حكايتها؛ علّها تنقذ نفسها وحياتها ...

"كنت أستعد للنوم يا أستاذ وقت أن قررت قتلي". 

تشير إلى ملابس النوم التي ترتديها وهي جالسةٌ فوق المكتب، توضح له مبرر مقابلته للمرة الأولى بملابس البيت 

"ليس قِلة احترام مني ولا تهاون بمكانتك العالية يا أستاذ، كنت أستعد للنوم بعد يوم عمل طويل شاق مرهِق، كنت أستعد للنوم بعد أن تحممت وخلعت بقايا اليوم المرهق تحت المياه الساخنة، كنت أراقب حكايتك عني، ووعدت نفسي ووعدتك أن أتجمل وأتزين، وألتقي بك بفستان أنيق كمثل الذي أزور به الجيران والأحبة، ويليق بقيمتك ومحبتك في قلبي بعد أن اخترتَني بطلة لروايتك الجديدة، لكنك باغتّني يا أستاذ وقت أن قررتَ قتلي، فهرعت أنقذ نفسي، وأحميك من طغيانك معي، فخرجتُ وبسرعة من وسط الأوراق المطوية ببجامتي التي لا يصِح أن تراني بها، لكنك أنت السبب يا أستاذ، ولو رأيت لقاءنا الأول بملابس النوم قِلة احترام لا تليق بك، فلُم نفسَك يا أستاذ ولا تلُمني، أنت الذي قررت أن تقتلني، فلم تترك لي خيارًا ولا وقتًا أتجمل، ودَفعتني وبسرعة لإنقاذ نفسي، فانتشلتها من بين ركام الأوراق المطوية، وفررت مِن درجك المغلق الخانق على حالتي التي كنت عليها" ..

 نعم، أدركت فتنة أن المؤلف سيمحو وجودها، فلم تَقبل طغيانه ولا مصيرها الموحش، وقررت أن تقاومه، وأن تقوّم سلوكه معها، وأن تنقذ نفسها، وأن تنقذه من نفسه، بسرعةٍ وبقوة، فرّت فتنة من الأوراق المطوية، بملابس النوم، ودفعت الدرج الخانق بقدميها الحافيتين، جلست على المكتب وشَعرها مبتل تسقط منه قطرات المياه الباردة على كتفيها، بعد أن انتهت من حمّامها المسائي، واستردت حياتها العادية بعد نهاية وقت العمل، يومُها كان طويلا مرهِقًا، زبونها كان رجلا عاجزًا ينكِر حالته المَرَضية، ويلوم النساء على فشلِه في إسعادهن. في ذلك اليوم، وقبل أن يلتقي فتنة، قرر غاضبًا أن يعاقب زوجته التي توجعه بكلماتها القاسية، وتعايره بحاله، فأخذ كل النقود التي في البيت، وقرر أن ينفقها بسخاء على ليلةٍ حمراء تسعده، سار بلا هدى، غشيم بلا خبرة، لا يعرف إلى أين يذهب، حتى قادته قدماه الحائرتان للملهَى الليلي، حيث تجلس فتنة، دخل وجِلاً، وجلس على منضدةٍ بعيدة، وكأنه يتوارى من الحضور، لمَحته فتنة، وأحسّته مرتبكًا غريبًا عن المكان، أشفقت عليه من أزمته التي لا تعرفها، أرسلت له مَن يدعوه لمنضدتها، استجاب لدعوتها مرتبكًا، يتحسس النقود في جيب بنطاله خائفًا، وكأنها ستسرقها منه فتحرمه من ليلته الحمراء التي يتمنى أن تنقذه من عودته لزوجته منكسرًا مهزومًا، تنقذه من معايرتها له بحالته التي يعرفها، تنقذه من غضبها على نقود البيت التي بَددها بلا طائلٍ ولا فائدة، تنقذه من غضبه الذي سيفرغه فيها صفعاتٍ ساخنة علي وجهها، وركلاتٍ موجعة في قصبة رِجلها. اقترب من فتنة ومنضدتها مرتبكًا، فابتسمت له برقةٍ وحنان، ودَعَته بلطفٍ للجلوس معها كضيفٍ عزيز يستحق الترحيبَ والحفاوة، وسرعان ما أدركت حالتَه من بضع كلماتٍ متعثرة، ونظراتٍ مرتبكة، ومن رعشة يديه وجفنيه المكسورين، سرعان ما أدركت حالته وما يعانيه، يحتاج عونًا يضخ في عروقه ثقةً تعيد إليه رجولته المذبوحة التي تريق زوجته القاسية كرامتَها كل ليلة، ابتسمت له وكأنه حبيبها الغائب وقت أن عاد فجأة لحضنها، ارتبك لا يصدق شوقها الصادق، أحَس مشاعر لم يحِسها من قبل، لا مع زوجته ولا مع غيرها، سألته بحنانٍ عمّا ألقاه إلى ذلك المكان الذي لا يشبِهه، لم ينتبه لحديثها منشغلاً بالتحديق في كتفيها اللامعين، وعنقِها الأنيق، يختلس نظرة فرحة لفتحة ثوبها، ويلقي بعينيه على صدرها يكتشف جمالا لم يرَ مثله من قبل، ويشعر بمشاعرَ نسيها منذ زمنٍ بعيد، تراقبه وتفهم ما يحِسه، ولا تحرجه في رحلة اكتشافها واكتشاف مشاعره معها، تسأله عن إمكانيه رحيله معها مِن هذا المكان الخانق، تسأله بذكاءٍ وكأنها ترجوه أن يرحل معها، تعرف أن المكان يضايقه ويربكه، لكنه لا يجرؤ على أن يطالبها أن تخرج معه إلى حيث لا يعرف أين يذهبان، يوافقها مرتبكًا، ويكاد يسألها عن ثمن ليلتِها معه، برقةٍ وميوعةٍ وحنان تطالبه بالصمت، وتلومه لسوء ظنه بها، فهي لن تقايضه على السعاده التي ستمنحها له، وستترك تقدير مكافأتها لقدر سعادته ..

ذهبت معه إلى منزل صديقتها التي اعتادت أن تتركه لها مقابل إيجارٍ يومي مغرٍ، تمنحه لها فتنة بسخاءٍ وكرم، أجلسته على مقعدٍ كبير، وكأنه ملِك صاحب شأنٍ عالٍ، أشعلت بجواره شموعًا فوّاحة، ارتدت ثوبًا مثيرًا أنيقًا، لكنه مع ذلك كان ثوبًا وقورًا، هذا الرجل لن يفلح معه أسلوب صدمة الأنوثة، إنْ تعرّت خاف، وإن فَجرت هرب، هذا الرجل تربّى في حضن أمّه، هي التي ترعاه بدلال، ولا يعرف غيرها نساء، حتي زوجته. فهِمته فتنة، وفهمت مشكلته ببساطةٍ وسهولة، المرأة في حياته وخياله هي أمّه التي تقبض على لجامه وتقوده برقةٍ وحسم، المرأة القوية تصغّره فيكرهها، والمرأة الضعيفة تربِكه فينفر منها، فهِمت فتنة حالَه ورغبته، وقررت أن تلعب معه دورًا مختلفًا عن أدوارها المعتادة مع زبائنها وعملائها، ستكون له المرأة القوية الحانية التي تترك له يدَها ليقودها، ستأخذه في حضنها، ستعامله كطفلها المدلل، ربما تغنّي له أغنية من أغاني الأطفال، ربما تقول له نكتة، لا تعرف بالضبط ما الذي سيحدث بينهما، هي فقط تقرر كيف ستكون البداية، وستترك له رسم بقية الليلة وتفاصيلها حسْب رغبتِه وحريته، وقد كان. أخذ الرجل يتكلم، يقص عليها مشكلاته، تدمع عيناه، لكن دموعه لا تنهمر، يرتبك حين يلامس جسدها جسده، هو يبحث عن لحظة راحة، عتق من العجز، فرار من القهر المستمر، لو سمِعته سيمنحها كل ما في جيبه، لو سمِعته ستفهم مشكلته، ربما لن تحلها، وربما تحلها، هذا ليس مهمًا، المهم أنها تسمعه، هي فهِمته، فهمت طلبه منها، أخذته في حضنها وهدهدته، نامت على ساقه وأمسكت أصابعه برِقة، لم تطفِيء كل الأنوار، تركت له نورًا هادئًا، أدارت موسيقى حانية، صمتت تمامًا حتى بدأ الرجل يتكلم، تكلم كثيرًا، عبثَ بشَعرها كأنه أبوها الذي كانت تتمناه، سمِعته كأنه أمّه التي يفتقدها.... 

طالت الليلة بينهما، وفي نهايتها غادرها الرجل سعيدًا هانئًا، راضيًا عن نفسه وعنها، قَبّل يديها امتنانًا، وسألها عن رقم تليفونها ليطمئن عليها، رَفضت، وشرحت له  

"أنا موجوده هناك دايما"، وأضافت، "ولو انك مش محتاج تيجي هناك تاني" 

صدّقها، وغادرها والفَجر يسطع بنوره في السماء، غادرها منتشيًا يكاد يحلّق في السماء، واثقًا من نفسه، فخورًا بما حدث بينهما، يؤكد لنفسه أن المشكلة أبدًا لم تكن عنده ... 

تبتسم فتنة، وتحكي لنبيل عن سعادتها بتلك الليلة، وعمّا فعلته مع الرجل، شرحت له أنها عادت إلى منزلها فرِحة، تحممت وغيّرت ملابسها، وجهزت كوب شاي وأغنية لعبد الحليم؛ استعدادًا للنوم، لولا ما حدث وقت أن قرر المؤلف الظالم قتلها فاختنقت فجأة، وكأن العالم تهاوى فوق رأسها، لا تفهم ما يحدث لها وقت أن طوى المؤلف الأوراق ودفنها في الدرج المزدحم الخانق، "وآدي اللي حصل يا أستاذ، يرضيك والنبي؟"

وانتفض نبيل في فراشه، وكاد يسقط مِن عليه، وصوت فتنة يلاحقه بحكاياتها، يستشعر غرابة لا يصدقها، وكأنه يبحث عن كابوسه اليومي الذي يعرفه واعتاد عليه، انتفض لا يصدق أن صوتًا آخر غريبًا يحتل رأسه ويثرثر بلا توقف حتى كاد يحطم رأسه المتعبة القلِقة، "يرضيك كده يا استاذ؟ أستحِق أنا كده؟" 

ويضحك وهو نائم يستشعر جنونًا لا يفهمه، ولا يجد إجابة لتلك الأسئلة الغريبة التي تلاحقه، لا يفهم مَن يسألها ولا يعرفه. 


رؤوف


على مكتبه، يجلس رؤوف حزينًا غاضبًا ساعاتٍ طويلة؛ يطالع الرواية الملقاة أمامه منذ أيام كثيرة، يفتح الكتاب ويغلقه، يقرأ بضعة سطور، ويكاد يمزق الصفحات ويلقي الكتاب بعيدًا عن مكتبه ومكتبته ومنزله وحياته كلها، يهز رأسه بأسى لا يصدق عينيه، ولا يصدق الكلمات المكتوبة ولا المعاني التي تحكيها الكلمات الفارغة التي يمتلأ بها الكتاب الكبير بين يديه.  

يحدّق رؤوف في كوب الشاي البارد أمامه بعد أن انشغل بالكتاب حتى مر الوقت ونسي الشاي ونفسه، مشاعر موحشة سخيفه تحتل روحه، يشعر هزيمة أوقعته أرضًا، يشعر خديعة لا يليق بمثله وبخبرته أن يقع في شَرَكها، يؤكد لنفسه، لقد خدعه هذا الكاتب، خدعه هذا المؤلف بروايته الأولى، احتفى به وأشاد بموهبته وبكتابه الأول، وكَتب عنه أكثر من مقال وهو مجهول لا أحد يعرفه ولا سمع عنه، تصوره رؤوف للأسف كاتبًا موهوبًا سيقدّر موهبته ويحترمها، ويعمل على تطوير ملَكاته وقدراته، ويفتح في الأدب العربي بابًا جديدًا طال انتظاره، أشاد به وبكتاباته، ووعدَ القراء بكاتب محترم موهوب سيضيف للمكتبة العربية إبداعًا وثراءً فوق إبداعها وثرائها، لكن نبيل، هذا الكاتب الملعون كما يصفه رؤوف دائمًا، قرر أن يطوع موهبته وإمكانياتها لمن يدفع ثمنًا أعلى. روايته الأولى الرائعى لم يبع منها أكثر من عشرين نسخة، وبقيت بقية نسخها تستجدي القراء ينتبهون إليها حتى التهمها التراب على الأرفف والأرصفة، رؤوف تفهّم ما حدث وتمنى أن يكلم نبيل ويطمئنه على موهبته وعلى حاله، تمنى أن يشرح له أن القيمة الأدبية العالية للرواية أمرٌ يختلف كثيرًا عن التسويق والبيع والمكسب المادي، عليه أن يخلص لموهبته، وأن ينتصر لإبداعه، ويصبر ويثابر على العمل حتى ينتبه القراء له، ويسعوا لكتبه، ويفسحوا لها صدارة مكتباتهم، لكنه قبل أن يفعل، فوجيء بالرواية الثانية لنبيل مع ضجة كبيرة ومقالات سطحية تشيد بها، وأكاذيب عن ترشحها للجوائز الثقافية واكتساحها للمسابقات، فوجيء بالرواية الثانية تصاحبها ضجة تسويقية أقلقته، وسرعان ما تأكدت مخاوفه ورسخت، روايته الثانيه مملة، وكأنه كتبها وهو يحتضر، فحملت بين سطورها مواتًا ثقيلا، رواية زائفة كُتبت على عجل بلا اكتراث من الكاتب بموهبته وقارئه، حاول رؤوف أن ينتهي من الرواية، لكنه عجز إلا بمشقةٍ وثقل أرهقاه وهو يلاحق شخصياتها الكاذبة وأحداثها الكاذبة، يلاحقه سؤال موجع عما لحق بمشروع الكاتب الواعد الموهوب، وكيف وأدَ براعته، وسحق إبداعه، وفقدَ بوصلته الحقيقية، فتاهت منه الدروب؟ كيف.. وكيف.. وكيف؟! وقرر رؤوف ألا يصمت وألا يترك الكاتب في ضلالاته فاقدًا الطريق والاتجاه والصدق، قرر أن يعيده لنفسه ولو بقسوةٍ وعنف، وأغلق على نفسه باب مكتبه حتى انتهى من مقالٍ نقدي قاسٍ عن الرواية الكريهة، كما سمّى الرواية الثانية لنبيل، هاجمه وهاجم الرواية بمنتهى العنف والحب معًا، نصحه أن يصون موهبته ويعود لنفسه، نصحه ألا يتسرع في الكتابة، وألا يبحث عن المكسب المادي والطبعات الثانية والعاشرة، نصحه أن يغلق على نفسه بابه، ويراجع نفسه، ويقارن بين روايته الأولى والثانية، نصحه أن يحترم قارئه ونفسه، وبعد أن مزق الرواية الكريهة وسخِر من كل شخصياتها، واصطناعِ أحداثها، طلب من المؤلف أن يسحبها من السوق، وأن يمنع الناشر من بيعها؛ احترامًا لمستقبله الذي يتمناه له رؤوف باهرًا عظيمًا وقت أن يعود لنفسه. 

نَشر رؤوف المقالة القاسية منتظرًا أن يرتدع المؤلف، وأن يشعر بصدقه وغضبه وحرصه عليه، وأن يراجع نفسه ويلومها على ما فعله في قرائه ومحبيه، وتَصَور رؤوف أن كلماته القاسية لن تحول بين نبيل وبين الإحساس بمحبة رؤوف له وتقديره لموهبته، وأنه سيعدل مساره، ويغيّر طريقه، ويتراجع عن بيع نفسه وإهدار موهبته، وانتَظر عملا إبداعيًا كبيرًا يؤكد صحة رأيه الأول في موهبته وصدقه، انتَظر عملا إبداعيًا يحمل اعتذارًا ضمنيًا من المؤلف لنفسه، ولرؤوف، ولقرائه ..

لكن نبيل خذلَ رؤوف بمنتهى القسوة والوضاعة، وسرعان ما أصدر روايته الثالثة، وبسرعة، فتلقّفها رؤوف يبحث فيها عن أثر القسوة والمحبة والمقال الطويل الذي أخلص له فيه القول، فلم يجد إلا ركامًا متعمدًا من زيفٍ وتعجلٍ وخليطٍ سطحي من كل التوابل المثيرة للأعصاب الجنسية والسياسية. خليط من الشخصيات النمطية الجوفاء، مخدرات، وعري، ونميمة، وليالٍ حمراء، وزنا محارم، وألفاظ فجّة لا تستدعي أحداثُ الرواية تناثرَها على لسان الأبطال ولا في أحاديثهم، جاءت الرواية الثالثة بلا إبداع ولا فن، ولا صدق ولا إحساس، وكأنها جلسات نميمةٍ طويلة في سهرة عربدة. يومَها لم يقوَ رؤوف على الصمت، ولا على كظم الغيظ، وقرر أن  ينال منه ويفضحه عقابًا له على إهدار الموهبة، وضياعِ الفكر، والسقوطِ الإرادي الذي اتخذه طريقًا وضيعًا قرر نبيل أن يسير فيه بكامل إرادته ووعيه، وكانت الفضيحة الكبرى في الأوساط الثقافية وقت أن كَتب رؤوف سلسلة مقالاتٍ عن نبيل  بالاسم، وهاجمه ووصَفه بالمدّعي التافه، وهاجَم روايته الثانية والثالثة، وهاجم شخصياتِها وأحداثها، وفضحه لأنه بمنتهى الإدراك والوعي لملمَ كل المتناقضات والتوابل المثيرة ونَسج منها لوحةً قبيحة فجّة، باعها للقراء قاصدًا إفساد ذوقهم، وتشويه وعيهم، وسرقة أموالهم، واختتم رؤوف سلسلة مقالاته باعتذارٍ لقرائه ومتابعيه لأنه خُدِع في ذلك المدّعي التافه، وأوهم القراء بمشروع كاتبٍ واعدٍ موهوب، وهو في الحقيقة ليس إلا نصابًا يستحق الاحتقار والازدراء والكراهية، ونبذَه ونبذَ كتبِه ..

وكانت مقالة رؤوف عن نبيل وروايته صوتَ نشاز وسط جوقة كبيرة من الكتابات النقدية التي اشترى الناشر أقلامها، فانهالوا على رأس نبيل إطراءً ومدحًا، وثناء وإعجابًا، لكن الغريب كما أدرك رؤوف، أن نبيل لم يكترث ولم يهتم إلا بمقالات رؤوف، ولم تسعده مقالات المدح والتعظيم قدْر ما أتعسه النقد القاسي الذي كاله رؤوف فوق رأسه ورأس رواياته، فلم يقوَ على الصمت ولا على التجاهل، واتصل بحمقٍ وغضب برؤوف تليفونيًا، وتشاجر معه، وهاجمه وادّعى عليه أنه يبتزه ويسعى لمصالحَ شخصيةٍ من الهجوم عليه وعلي رواياته العظيمة، وسأله عن السعر المناسب الذي يقبله ليكفّ عن الهجوم عليه! يومَها سمِعه رؤوف حتى انتهى من كلامه، ولم يردّ عليه ولا بكلمة، وأنهى المكالمة، وبكي بكاءً مُرًا، واعتكف في بيته يومين لا يخرج منه، بكى بكاءً حزينًا على نبيل الذي ورغم كل ما قاله من كلامٍ فارغٍ وإهانةٍ متعمدة وسافلة، إلا أن صوته العالي كان كاذبًا مرتجفًا، لا يصدق هو شخصيًا ما يقوله، بل هو واثق ومتأكد أن رؤوف قال عنه كل الحقيقة التي ينافقه الآخرون فلا يقولونها، وأنه أحقرُ مما وَصفه به رؤوف، وأنه أهدر موهبته وأهانها وأهان نفسه، بكى رؤوف بكاء مُرًا لأن صوت نبيل العالي كاذبٌ مرتجف مرتبِك، وهو يصرخ في رؤوف أن رواياتِه حازت إعجاب الجميع، قراءً ونقادًا، واحتفى بها على كل الدوريات الأدبية والندوات، فرواياته لا تعجبه هو شخصيًا، ورأيه فيها أشد قسوةً وغضبًا من رأي رؤوف، لكنه قرر بعمدٍ كريهٍ أن يبحث عن الطبعات الثانية والعاشرة، وعن النقود الكثيرة، والشهرةِ السريعة، باعتباره الكاتب الأكثر جرأة والأغزر إنتاجًا، بكى رؤوف بكاءً مُرًا لأن نبيل يتقزز أكثر منه من القيح الكريه الذي يسيل من بين دفتَي رواياته، لكنه قرر وبعمدٍ أحمق أن يفقأ عينيه ويمضي في طريق السقوط وبسرعة، رؤوف واثق ومتأكد أن نبيل يكذب على نفسه أولَ ما يكذب، ويخدع روحه أولَ ما يخدع، وأن صراخه الأجوف من أن الرواية الأخيرة حازت إعجاب الجميع محضُّ كذبٍ لا يصدقه نبيل؛ لأن الرواية لا تعجبه، ولا يحترمها، ولأنه غاضب من نفسه ومنها، بكى رؤوف وقرر ألا يكتب عن ذلك الكاتب المدّعي بعد اليوم، مهما نشر، ومهما قال، لن يكتب عنه بعد اليوم؛ لأن مقالاتِه لا جدوى منها، فالقراء الذين يتكالبون على شراء تلك الروايات لا يقرأون مقالاتِه، ولن يقرأوها، والكاتب المدّعي الذي تمنى أن يعود لرشده، تَخلّى عن رشده طواعيةً وبمنتهى العمد..

نعم، قرر رؤوف أن يتجاهل نبيل  وألا يكتب عنه أبدًا، وفعل فِعلا، وحين صدرت روايته الجديدة لم يشترِها، ولم يستشعر فضولا ليطالعها، لكن نبيل لم يتركه في حاله وتجاهله، وأرسل له نسخة عليها إهداء لأستاذه الذي يحترم آراءه، حتى هذا الإهداء لم يستفز رؤوف، لم يدفعه للكتابة عن الرواية ومهاجمتها، لم يدفعه لفتح الكتاب وقراءة حتى أسطره الأولى، حين قرأ رؤوف الإهداء بكى وألقى الكتابَ بعيدًا عن يديه، وتشبّث أكثر بتجاهل نبيل وكل ما يكتبه، وبعدَها أصدر نبيل رواية أخرى، وخامسة وعاشرة، يرسل نسختَها الأولى للأستاذ الذي يحترم رأيه، وكأنه كان يتمنى هجومًا من رؤوف؛ علّه يساعده على أن يَلفظ الهاوية التي سَكن إليها ويعود لنفسه، لكن الأستاذ بخلَ على التلميذ بالرأي والنصيحة والهجوم؛ لأنه، كما يصِفه الأستاذ، تلميذ أهوج يدمر حياته باختياره، وكأنه يشمّ الهيروين بإرداته راغبًا، بعد النشوة المؤقتة، في الموت منتحرًا! 

الأستاذ بخل على تلميذه بالنصيحة، وأنكر أنه تلميذه، وأنه يعرفه أصلاً، وحين يلتقيان مصادفة في أي لحظة، ولأي سبب يستبد الغضب برؤوف، ويتلون وجه نبيل بالارتباك والخجل والمكابرة الفارغة، ويغشى الحزن قلبيهما معًا!  

وما يزال رؤوف على مكتبه، أمام الشاي البارد، يحدّق في الكتاب الجديد الذي وصله من نبيل، يفكر في معنى العنوان الذي بلا معنى، يتأمل قبح الغلاف وألوانه المتنافرة، يتمتم بكلمات الإهداء النمطية التي يصِر نبيل على إرسالها له باعتباره الأستاذ الذي يهمه رأيه، يحدّق رؤوف في الكتاب ثم يلقيه بعزم قوتِه بعيدًا وينفجر في البكاء؛ لأن العمر طال به حتى عاش تلك الأيام الرديئة التي يتخلّى فيها أصحاب الموهبة عن موهبتهم طواعية، وبمنتهى التجبر والانسحاق؛ ساعين لقِممٍ هي في حقيقتها قاع الهاوية!  


google-playkhamsatmostaqltradent